المتشحات بالسواد
غريب امرك ايتها الدنيا التى نعيشها يظن الانسان انه بك محتميا و لكن فى الحقيقة انت خائنة للامانة بل انك لم تحمى احد فى الاصل ، فاجبرتينا على العيش بقبولك لنا فى دنيا لم نختارها ثم تتركينا فريسة للموت نذهب اليه ولا نحمل منك سوى اكفانا بيضاء تاركين المال و الولد ، و لكن هيهات ايتها الدنيا فليس هناك لك حصة من الازلية فانت زائلة لا محال و لن يتبقى منك مجرد اوهام .
اثناء تواجدى بمحكمة الاسرة بالتجمع الخامس و فى انتظار طويل ليعلن الحلجب عن بدا رول الجلسات " الحبس " ، قطع ذلك الانتظار رؤيتى لخمس فتايات متشحات بالسواد بين العباءة و الاسدال و الملابس العصرية " الجينز و البادى و الايشارب " مرسوم على وجوههن حالهن البائس ممتزج ذلك بتلك النظرة المعبرة عن الرضا بالحال ، كن يسيرن ببطىء ممزوج باستكانه لا اظنه من واقع سلوك الحياء و لكنه نابعا من ذلك الضعف الشديد النابع من حالهن المجهول الممتزج بانوثتهن و التى يعبر عنها حالهن ليس بالجسد و انما بسلوكهن الظاهر اثناء انتظار موعد جلستهن .
فحين جلسن كن يلتصقن ببعضهن كالقطيطات حديثة الولادة و كانت ترتكز احداهن على كتف اخرى براسها لتغفوا غفوا مصطنعا تكتسب به بعض الراحة او لكى تكتسب بعض الدفىء و الهروب من سقيع ذاك النهار الشتوى .
حين تمعنت اكثر فى النظر اليهن و خاصة وجوههن فلم ارى تلك البسمات الانثوية التى يعهدها الشاب فى الفتاه اذا نظر لوجهها حتى و لو بمحض الصدفة ، و لكننى لم ارى سوى احزان الموت مرتسمة على وجوههن مما اثار فى نفسى تساؤلا عن حالهن فبدات مخيلتى بالعمل لكى تجيبنى عما دار براسى عنهن .
فاول ما دار بخلدى انهن ينتظرن ميعاد الرول الخاص بهن فى اعلام الوراثة و الذى هو بالتاكيد خاص بوالدهن المتوفى فقد تركهن بلا سند و لا مال ليس لهن الا الله عز و جل كفيلا بهن ، فتسالت كيف سيكون مصيرهن كيف سيقدرن على العيش و يتملن مصاب الحياه هل سيكفى لهن معاش والدهن ؟! كثير من تلك التساؤلات دارت بخلدى حين اعتقد انهن ينظرن دورهن برول الوراثات .
الا انه بانتهاء ذلك الرول و لم يتحركن من اماكنهن و بدا الحاجب فى النداء على رول الموضوعى الطويل بعادته ، ذهبت مخيلتى الى الاعتقاد بانهن من اصحاب قضايا النفقة ، فقد يكون والدهن من اشباه الرجال الذى يتزوج فقد ليشبع شهواته او انه ذاك الشبيه بالرجل الذى ترك زوجته و ابناؤه ليلحق بملاذاته من زجاجات الخمر و سجائر الحشيش و يقتضى ليلته من هم مثله تاركا ابناؤه و زوجته مكشوفى العورات و الجوع ينهش بكبادهم كالوحش الكاسر ، او انه ذاك العجوز المتصابى الذى يترك بته و ابناؤه لكى يتزوج بمن هى فى مثل عمر بناته فما اكثر هؤلاء الرجال او من يطلق عليهم رجال فهم كالذئاب ينهشون لحم نساء المجتمع .
الا ان مخيلتى جانبها الصواب ايضا و عادت بخفى حنين من عالم الخيال ، فقد انتهى رول الموضوعى و لم يتحركن المتشحات بالسواد و حان موعد رول الحبس فقمت من مكانى مقتربا من باب غرفة المداولة استعدا لحضور جلستى و حين خرجت من تلك الغرفة وجد عدد غفير من الناس حيث كان هذا ميعاد دخول " المحابيس " فقد كانت الجلسة التالية هى تجديد الحبس حيث انها ستنظر من قبل ذات القاضى الذى نظر الاسرة ، عندها بحثت سريعا عن الفتايات فوجدهن قد تحركن باتجاه قفص الاتهام عندها علمت ان احد المساجين هو قريب لهم فكان معظم المحابيس من الشباب و يوجد منهم من يتضح من شكله انه فى العقد الثالث او الرابع من عمره ، فحين قررت ان اذهب بمخيلتى مرة ثالثة لى اعرف ما من هؤلاء المساجين قريبهن تذكرت الاحتمالات التى جائت بعقلى بالسابق و ذلك حين اعتقد انهن ينتظرن دورهن برولى الموضوعى و الوراثات ، و عليه فقررت الا اترك مخيلتى هذه المرة فلا ارغب ان اقع فى نفس الخطا مرة ثالثة .
و عند ذلك قررت ترك القاعة و الخروج تماما من المحكمة متوجها لمنزلى و انا مرتسما على وجهى ضحكة صفراء تعجبا من تلك الحياه التى نعيشها و مستعجبا من هؤلاء العاشقين لها و الباحثين عن الحرية الكاذبة بها ، فالدنيا ليست سوى عبث او انها قد تكون غير موجودة اصلا و ان حياتنا الشعورية ما هى الا كذبة كبيرة يحياها البشر يوميا .
امثال هؤلاء البنات تجدهن كثيرا جدا فى مجتمعنا بل منهن لم يجد سوى الشارع مآوى لهن ، لا اعرف لما عجز ممثلو الشعب فى التاسيسية فى الاخذ فى الاعتبار هؤلاء النسوة بكافة اعمارهن حين كتبوا مسودة الدستور خاصة انه بعد انسحاب القوى المدنية و لم يتبقى سوى ممثلوا تيار الاسلام السياسى ، و مع ذلك لم يراعى هؤلاء المتكلمون بالدين ما تكلمت عنه الشريعة من كتاب و سنة فلم يبزلوا المجهود الكافى لاعطاء المراة حقها و اكتفوا بذكر المعيلة الارملة فلم يتذكروا اليتيمات و المطلقات او من هن تعرضن لظلم الرجال فى مجتمعنا الذكورى هذا و البعيد جدا عن مفهوم الرجولة .
و اخيرا يستمر تعجبى من تلك الحياه المتناقضة التى يعيشها البشر و التى تدفع الكثير منهم لحافة الجنون .
لا اعرف لماذا يصيبنا الجنون الدائم ؟ لماذايزداد تعلقنا بالدنيا ؟ ماذا قدمت لنا تلك الحياه لكى ندافع عنها هكذا ؟ ما الدافع وراء لعق بيادة تلك الدنيا ؟ لماذا نحزن على اشخاص غادروها ؟ فرحيلهم يعنى استراحهم منها و من تلك الفوضى الانسانية التى نحياها .

تعليقات
إرسال تعليق